مرحبا بكم في مجموعة كوفينا البريدية

السبت، 6 أغسطس 2011

قواعد قرآنية : القاعدة السادسة

006قواعد%20قرآنية.jpg?psid=1


قواعد قرآنية : القاعدة السادسة



(..... وَالصُّلْحُ خَيْرٌ.......) ،،، النساء : 128



الحمد لله ، والصلاة و السلام على رسول صلى الله عليه و سلم .. أما بعد :فهذه حلقة جديدة من برنامجكم المُتجدد : (قواعد قرآنية ) ، نقف فيها مع قاعدة من القواعد المُهمة في بناء المجتمع ، وإصلاحه ، وتدارك أسباب تفككه ، إنها قول ربنا العليم الحجيم سبحانه : { ... وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ... } .النساء : 128


وهذه القاعدة القرآنية الكريمة جاءت في سياق الحديث عما قد يقع بين الأزواج من أحوال ربما تُؤدي إلى الاختلاف والتفرق ، وأن الصلح بينهما على أي شيء يرضيانه خير من تفرقهما ، يقول سبحانه : {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } .. النساء : 128


ويُمكننا القول : إن جميع الآيات التي ورد فيها ذكر الإصلاح بين الناس هي من التفسير العملي لهذه القاعدة القرآنية المتينة .

ومن المناسبات اللطيفة أن ترد هذه الآية في سورة النساء ، وهي نفس السورة التي ورد فيها قوله تعالى : {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} النساء : 35

يقول ابن عطية ( رحمه الله ) : ـ مُؤكداً اطراد هذه القاعدة : ( وقوله تعالى : { والصلح خير } لفظٌ عام مُطلق ، يقتضي أن الصلح الحقيقي ـ الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف ـ خيرٌ على الإطلاق ، ويندرج تحت هذا العموم أن صلح الزوجين على ما ذكرنا خير من الفُرقة ) .. المحرر الوجيز ـ موافق للمطبوع - (2/141 ) ..


ومعنى الآية باختصار.. (هذا التوضيح مُختصر من كلام العلامة السعدي ) .
أن المرأة "إذا خافت المرأة نُشوز زوجها (( أي : تَرّفَعه عنها ، وعدمِ رغبتِه فيها وإعراضه عنها )) ، فالأحسن ـ في هذه الحالة ـ أن يُصلحا بينهما صُلحا ، بأن تسمح وتتنازل المرأة عن بعض حقوقها اللازمة لزوجها على وجه تبقى مع زوجها: إما أن ترضى بأقل من الواجب لها من النفقة أو الكُسوة أو المسكن ، أو القسم بأن تُسقط حقها منه ، أو تهب يومها وليلتها لزوجها أو لضرتها ، فإذا اتفقا على هذه الحالة فلا جناح ولا بأس عليهما فيها ، لا عليها ولا على الزوج ، فيجوز حينئذ لزوجها البقاء معها على هذه الحال ، وهي بلا شك خير من الفُرقة ، ولهذا قال سبحانه : {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} .. "


يقول العلامة السعدي ( رحمه الله ) :
"ويُؤخذ من عموم هذا اللفظ والمعنى : أن الصُلح بين من بينهما حقٌ أو مُنازعة ـ في جميع الأشياء ـ أنه خيرٌ من استقصاء كل منهما على كل حقه ، لما فيها من الإصلاح وبقاء الألفة والاتصاف بصفة السماح .
وهو ـ أي الصلح ـ جائزٌ في جميع الأشياء إلا إذا أحل حراماً أو حرم حلالاً ، فإنه لا يكون صلحاً ، وإنما يكون جوراً .
واعلم أن كل حكم من الأحكام لا يتم ولا يكمل إلا بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه ، فمن ذلك هذا الحكم الكبير الذي هو الصُلح ، فذكر تعالى المقتضي لذلك ونبه على أنه خير ، والخيرُ كلُّ عاقلٍ يطلبه ويرغب فيه ، فإن كان - مع ذلك- قد أمر الله به وحث عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة فيه .

وقد ذكر سبحانه المانع بقوله : {وأُحضرت الأنفس الشُح} أي : جُبلت النفوس على الشُح ، وهو : عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان ، والحرص على الحق الذي له ، فالنفوس مجبولة على ذلك طبعاً ، أي : فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخُلق الدنيء من نفوسكم ، وتستبدلوا به ضده وهو السماحة ، وهو بذل الحق الذي عليك ؛ والاقتناع ببعض الحق الذي لك .


فمتى وُفق الإنسان لهذا الخلق الحسن ، سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومُعامله ، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب ، بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشُح من نفسه ، فإنه يعسر عليه الصلح والمُوافقة ، لأنه لا يُرضيه إلا جميع ماله ، ولا يرضى أن يُؤدي ما عليه ، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر" .. تفسير السعدي ..


ومن تأمل القرآن ، رأى سعة هذه القاعدة من جهة التطبيق ، فبالإضافة إلى ما سبق ذكره من الإصلاح بين الأزواج ، فإننا نجد في القرآن حثا واضحا على الإصلاح بين الفئتين المُتقاتلتين ، ونجده سبحانه و تعالى يثُني ثناء ظاهراعلى الساعين في الإصلاح بين الناس : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } .. النساء : 114


بل تأمل ـ أخي القارئ ـ في افتتاح سورة الأنفال ، فإنك مبصرٌ عجباً ، فإن الله تعالى افتتح هذه السورة بقوله: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [الأنفال :1] .. فلم يأت الجوابُ عن الأنفال مُباشرة ، بل جاء الأمر بالتقوى وإصلاحِ ذاتِ البين ، وطاعةِ الله ورسوله ؛ لأن إغفال هذه الأصول الكبار سببٌ عظيم في شر عريض ، لا يعلم مداه إلا الله عز و جل .. ولعل من أسرار إرجاء الجواب عن هذا التساؤل : لبيان أن التقاتل على الدنيا ـ ومنها الأنفال (وهي الغنائم) ـ سببٌ من أسباب فسادِ ذات البين ، ولهذا جاء الجواب عن سؤال الأنفال بعد أربعين آية من هذا السؤال .

ولأهمية هذا الموضوع ـ أعني الإصلاح ـ : أجازت الشريعة أخذ الزكاة لمن غرم بسبب الإصلاح بين الناس . بل جاءت السنة بإباحة الكذب في هذا الباب العظيم ..


وإذا تقرر هذا المعنى المتين والشامل لهذه القاعدة القرآنية العظيمة : (والصلح خير) ، فمن المهم ـ حتى نستفيد من هذه القاعدة القرآنية ـ أن نسعى لتوسيع مفهومها في حياتنا العملية ، وأصدق شاهد على ذلك سيرة نبينا صلى الله عليه و سلم الذي طبق هذه القاعدة في حياته ، وهل كانت حياته إلا صلاحاً وإصلاحا ؟ وكما قال شوقي :



المصلحون أصابعٌ جمعت يداً *** هي أنت ، بل أنت اليدُ البيضاءُ
صلى الله على محمد ؛ صلى الله عليه و سلم



1) وبخصوص هذا الموضع الذي وردت فيه هذه القاعدة القرآنية العظيمة ، فقد طبق النبي صلى الله عليه و سلم هذه القاعدة وأجراها حينما كبرت زوجه أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضى الله عنها ، فقد وقع في نفسه أن يُفارقها ، فكانت تلك المرأة عاقلة رشيدة بحق ، فصالحته على أن يُمسكها وتترك يومها لعائشة ، فقبل ذلك منها ، وأبقاها على ذلك .ولعلك ندرك شيئا عظيما من آثار هذا العقل والرُشد في تصرف سودة رضى الله عنها فلقد أبقاها الله عز و جل زوجة لنبيه عليه الصلاة و السلام ؛ و هي أم المؤمنين ؛ و في الوقت ذاته هي زوجة من زوجاته في الدار الآخرة .. فلله درها ما أعقلها و ما أرشدها ..


2 ) و إذا خرجنا إلى ميدان سيرته الفسيح صلى الله عليه و سلم فإنا واجدون جملةً من الأمثلة ، منها :
أنموذج آخر في قصة بريرة ـ وهي أَمَةٌ قد أعتقتها عائشة رضى الله عنها ـ فكرهت أن تبقى مع زوجها ، وكان زوجها شديد التعلق بها ، حتى قال ابن عباس رضى الله عنها ـ كما في الترمذي ـ وهو يصف حب مغيث لبريرة : وكان يُحبها ، يقول ابن عباس : و كان يُحبها ؛ وكان يمشي في طرق المدينة ـ وهو يبكي ـ واستشفع إليها برسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقالت يا رسول الله أتأمرني ؟ ( أي : أتأمرني أن أعود إليه و أتزوجه ؛ أو أن أبقى على عقد الزوجية ؟ ) قال : لا بل أشفع ، قالت : لا أريده !
فانظر كيف حاول صلى الله عليه و سلم أن يكون واسطة خير بين زوجين انفصلا ، وشفع لأحد الطرفين لعله يقبل ، فلم يشأ أن يُجبر ؛ لأن من أركان الحياة الزوجية الحب ، والرغبة !


3) موقف ثالث نجده تطبيقا عمليا لتلك القاعدة : فلقد خرج مرة صلى الله عليه و سلم ـ كما في الصحيحين ـ من حديث سهل بن سعد رضى الله عنهما ..خرج إلى أهل قباء حين اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة ، فأُخْبِرَ رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك ، فقال لمن حوله : اذهبوا بنا نصلح بينهم ..


4) وعلى هذه الجادة النبوية سار تلاميذه النجباء من أصحابه الكرام وغيرهم من أتباعهم بإحسان رضى الله عنهم أجمعين : فهذا ابن عباس رضى الله عنه يخرج بعد استشارة أمير المُؤمنين على رضى الله عنه لمُناظرة الخوارج ـ الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضى الله عنه ـ فلما ناظرهم ابن عباس ( و كان هذا نوع من الإصلاح ) رجع منهم عدد كبير .
ومن قلّب كتب السير وجد نماذج مشرقة لجهود فردية في الإصلاح بين الناس على مستويات شتى ، بل حتى على مستوى الدول ؛ ولعل مما يبشر بخير ما نراه من لجان إصلاح ذات البين ، والتي هي في الحقيقة ترجمة عملية لهذه القاعدة القرآنية العظيمة : {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } .. فهنيئاً لمن جعله الله من خيار الناس ، الساعين في الإصلاح بينهم ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .


--
  

             

                                           


__________________________________________
هل ترغب في  نشر إيميل عبر كوفينا  ماعليك سوى ارسال مشاركتك على العنوان التالي وسيتم مراجعتها ونشرها 
للاشتراك في مجموعة كوفينا إرسل إيميل فارغ الى العنوان التالي 
ارشيف الايميلات على مدونة كوفينا 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق